فصل: السؤال الثاني: المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.أسئلة وأجوبة:

.أسئلة وأجوبة للفخر:

السؤال الأول:
المداينة مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق.
والجواب: أن المراد من تداينتم تعاملتم، والتقدير: إذا تعاملتم بما فيه دين.
السؤال الثاني:
قوله: {تَدَايَنتُم} يدل على الدين فما الفائدة بقوله: {بِدَيْنٍ}.
الجواب من وجوه:
الأول: قال ابن الأنباري: التداين يكون لمعنيين:
أحدهما: التداين بالمال، والآخر التداين بمعنى المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدين الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين:
الثاني: قال صاحب الكشاف: إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله: {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن.
الثالث: أنه تعالى ذكره للتأكيد، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] [ص: 73] {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
الرابع: فإذا تداينتم أي دين كان صغيرًا أو كبيرًا، على أي وجه كان، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس: ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة، وذلك إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل، فلو قال: إذا تداينتم لبقي النص مقصورًا على بيع الدين بالدين وهو باطل، أما لما قال: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} كان المعنى: إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين، ويبقى بيع العين بالدين، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير.
السؤال الثالث: المراد من الآية: كلما تداينتم بدين فاكتبوه، وكلمة {إِذَا} لا تفيد العموم فلم قال: {تَدَايَنتُم} ولم يقل كلما تداينتم.
الجواب: أن كلمة {إِذَا} وإن كانت لا تقتضي العموم، إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية، وهو قوله: {ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وَأَدْنَى ألاّ تَرْتَابُواْ} والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب، فالظاهر أنه تنسى الكيفية، فربما توهم الزيادة، فطلب الزيادة وهو ظلم، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل، كان الحكم أيضًا حاصلًا في الكل. اهـ.

.سؤالان:

.السؤال الأول: ما الأجل؟

الجواب: الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر، والآجل نقيض العاجل.

.السؤال الثاني: المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة؟

الجواب: إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله: {مُّسَمًّى} والفائدة في قوله: {مُّسَمًّى} ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلومًا، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو إلى الدِّياس، أو إلى قدوم الحاج، لم يجز لعدم التسمية. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للإذكار لا الإضلال؟

قلنا: هاهنا غرضان:
أحدهما: حصول الإشهاد، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية.
والثاني: بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد، وبيان فضل الرجل على المرأة مقصودًا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها، والله أعلم. اهـ.

.سؤال: لم سماهم شهداء؟

الجواب: سماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء. اهـ.
قال البيضاوي:
سموا شهداء قبل التحمل تنزيلًا لما يشارف منزلة الواقع. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

أمَرَ الله سبحانه الخلْقَ بالقيام بالصدق، وعلَّمَهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يُجْرِيَ- بعضُهم على بعض- حيفًا، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم، وموجب رِفقِه بهم كيلا يتخاصموا. فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة.
ومن شرع اليومَ ما يقطع الخصومة بينهم فبالحري أن يجري ما يرفع في الآخرة آثار الخصومة بينهم، وفي الخبر المنقول: «تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالي عليكم، فإن الكريم إذا قدر غفر».
وفيما شرع من الدَيْن رِفْق بأرباب الحاجات، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال، ويضيق به الصدر عن الاحتمال، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال، فأذِنَ له في الاستدانة ليَجْبُرَ أمرهَ في الحال، وينتظرَ فضل الله في المآل، وقد وعد على الإدانة الثوابَ الكثير، وذلك من لطفه تعالى. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

قد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببًا لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} النساء الآية.
قال القفال رحمه الله تعالى: ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار.
وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال ثانيًا: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل}، ثم قال ثالثا: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} فكان هذا كالتكرار لقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لأنّ العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعًا: {فليكتب} وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامسًا: {وليملل الذي عليه الحق} وفي قوله تعالى: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} كناية عن قوله: {وليملل الذي عليه الحق} لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادسًا: {وليتق الله ربه} وهذا تأكيد ثم قال سابعًا: {ولا يبخس منه شيئًا} وهذا كالمستفاد من قوله: {وليتق الله ربه} ثم قال ثامنًا: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله} وهو أيضًا تأكيد لما مضى ثم قال تاسعًا: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ}.
قال الفخر: تداين مفاعلة فلا تكون إلا من الجانبين، فلا يتناول إلا الدّين بالدّين.
أو فسخ الدّين بالدّين فلا يصح حلمه على ظاهره بل المراد به إذا تعاملتم.
وأجاب ابن عرفة: بأنّه يتناول الدّين بالدّين عن معاوضة فإن من اشترى سلعة بنقد أو نسيئة فإذا دفع الثّمن حصل له في ذمّة المشتري فله عليه الرجوع بعهدة العيب أو الاستحقاق.
قال الزّمخشري: وإنما قال ب {دين} ليعيد عليه الضمير.
قال ابن عطية: ليرفع الوهم، إن المراد ب {تداينتم} جزاء بعضكم بعضا.
قال ابن عرفة: بلى أتى به ليكون نكرة في سياق الشرط فيفيد العموم.
قوله تعالى: {فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله}.
الأمر بالكتب مصلحة دنيوية وهي حفظ المال، ومصلحة دينية وهي السلامة من الخصومة بين المتعاملين.
قيل لابن عرفة: يخرج الدين الذي على الحلول؟
فقال: لا يحتاج إلى كتب وثيقة غالبا فإن له طلبه في الحال.
ابن عطية: قوله: {بالعدل} متعلق بقوله تعالى: {وَلْيَكْتُب} لا ب {كاتب} لئلا يلزم عليه ألاّ يكتب الوثيقة إلاّ العدل في نفسه وقد يكتبها الصبّي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقها إلاّ أنّ المنتصبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يولّوهم إلا عدولا مرضيين.
قال ابن عرفة: هذا تخليط لأن الأمر بالكتب ابتداء إنّما هو للعدل في نفسه وإمضاء كتب الصبّي والعبد والمسخوط إنّما هو بعد الوقوع، والآية إنّما جاءت فيمن يؤمر بكتبها وفرّق بين الأمر في كتبها عند العدل في نفسه وبين إمضائها إذا كتبها غير العدل.
قوله تعالى: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا}.
قال ابن عطية: السّفيه الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها.
ابن عرفة: هذا هو السفيه عند الفقهاء.
قال: ومن كان بهذه الصّفة لا يخلو من حجر أب أو وصي أو قاض.
قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ}.
قوله تعالى: {بالعدل}.
كان بعضهم يقول: الذي يظهر أن يكون بالعدل متعلقا بوليه لا بيملل لأن إملاء الوصي إذا كان بغير العدل فالمشهور يجرحونه ولا يشهدون له فينبغي أن الوصي إذا أتى ليرهن على المحجور ويعمر ذمته ألاّ يشهدوا له إلا إذا تبين لهم في ذلك وجه المصلحة، وأما تعلقه بدين وكان أكثر الأوصياء لا يعدلون فلا يقبل إلا إملاء الوصي الدين ولذلك كان ابن الغماز يقول: جميع من رأيت من الأوصياء يتصرفون بغير الصواب إلا فلانا أو فلانا ويعيُّنهما.
قوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}.
قال ابن عرفة: مذهبنا أن العبد لايستشهد ابتداء فإن شهد قبلت شهادته.
والآية دالة على أنّه لا يشهد الرّجل والمرأة إلاّ عند عدم الرّجلين مع أنه إذا تعارضت بينتان إحداهما رجل وامرأتان والأخرى رجلان فإنّهما متكافئتان لكن هنا شيء وهو أنّ الأصوليين ذكروا الخلاف فيما إذا تعارض أمران في صورة أو تساويا فيها وثبت لأحدهما الرّجحان على الآخر في غيرها من الصور فهل يرجح الأرجح أم لا؟ فقولان فإن قلنا بالتّساوي فلا سؤال، وإن قلنا بتقديم الأرجح فيرد السؤال، لم جعلهما مالك متكافِئَتين ولم يقدم الأرجح.
قال ابن العربي: واحتجّ بهذا أبو حنيفة على أنّه لا يقضي بالشاهد واليمين.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: أن الآية سيقت لبيان ما يستقل به الحكم في الشهادة لا لبيان كل ما يوجب الحكم.
الثاني: أن هذه حالة التحمل وهو في حالة مأمور بأن يشهد رجلين أو رجلًا وامرأتين وإنما اليمين حالة الأداء والحكم بالحق.
قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء}.
متعلق ب {اسْتَشْهِدُوا}.
وأبطل أبو حيان تعلقه بامرأتين أو برجلين لئلا يلزم عليه المفهوم وهو إطلاق الحكم في الفريق الآخر وهما الرّجلان مرضيان كانا أو غير مرضيين.
وأجاب ابن عرفة: بأن قوله: {مِن رِّجَالِكُمْ} {وشَهِيدَينِ} بالإضافة، والمبالغة تفيد كونهما مرضيين.
قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنه تعليل للمجموع وإرادة أن تذكر إحداهما الآخرى إذا ضلت.
قال ابن عطية: قال بعض المكيين {فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ} بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة وإنّما خففوا الهمزة فقرب من الساكن ثم بالغوا في التخفيف فصارت الهمزة ألفا ساكنة ثم أدخلوا الهمزة على الألف ساكنة ومنه قراءة ابن كثير {وكشفت عن سَأْقَيْهَا}.
قال ابن عرفة: وقع تسكين الهمزة المتحركة في القرآن في ثلاثة مواضع: أحدها {وَجِئْتُكَ مِن سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}.
قرأها أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة.
وروي عن قنبل إسكان الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف، قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دابَةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}.
وقرأها نافع وأبو عمروا بالألف من غير همزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة.
والثالث قوله عز وجلّ في سورة فاطر: {وَمَكْر السَّيّءِ} قرأ حمزة بسكون الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بتحريكها.
قلت: وموضع رابع وهو {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}.
روى فيه عن أبي عمرو الاختلاس وروي عنه الإسكان.
قال ابن عطية: وقرأ حمزة {إِن تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ} جعل إن شرطا والشرط وجوابه رفع لأنه صفة للمرأتين، وارتفع تذكرُ كما ارتفع قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ}.
هذا قول سيبويه وفي هذا نظر.
قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ}.
قال ابن عرفة: قالوا: إن النهي تارة يكون للحاضر، وتارة يكون للغائب، فأمّا بالنسبة إلى القديم فلا فرق بينهما، وأما في المحدثات فقد يكون النهي في الغيبة أقوى وأشد منه في الحضرة، لأنك قد تنهي الشخص الحاضر عن فعل شيء بين يديك وتكون بحيث لو سمعت عنه أنه يفعله في غيبتك لا تزجره ولا تنهاه.
فهذا الأمر فيه أخف من شيء تزجره على فعله في الغيبة والحضرة فإن النهي في هذا أشد.
ولا يؤخذ من الآية أنّ الأمر بالشيء ليس هو نهيا عن ضده لأن {اسْتَشْهِدُوا} أمرٌ للمتعاقدين {وَلاَ يَأْبَ} نهي للشاهدين. قوله تعالى: {وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ}.
السآمة بمعنى الكسل، وقدم الصغير خشية التهاون به والتفريط فيه كقول الزّمخشري في {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وقوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقوله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} مع أن العداوة تنفي أخذ الدية ويوجب التعارف بها فلذلك قدمت الدّية.
والضمير في قوله: {تَكْتُبُوهُ} إما عائد على الحق أو على الدّين، أو على الكتب.
قال بعضهم: وإن عاد الضمير على الكتاب ف {أَوْ} للتخيير، وإن عاد على الحق أو الدين فأَوْ للتفصيل.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}.
ابن عرفة: هذا دليل على أنّ الأمر المقدم للندب لا للوجوب.
والصواب أنّ المراد الإشهاد أقسط عند الله والكتاب أقوم للشهادة فيكون لفّا ونشرا، أي أعدل وأقرب لقيام الشهادة.
وأَقْسَطُ قيل من الرباعي وهو شذوذ.
قال الزمخشري: من قاسط على النسب أي ذو قسط، أو جار مذهب سيبويه في بنائها من أفعل.
ورده أبو حيان: بأن سيبويه لم ينص بناء أفعل التفضيل من أفعل بل قال: فعل التعجب ينبني من فعل وأفعل.
قالوا: وأفعل التفضيل ينبني مما بني به فعل التعجب.
قال ابن عرفة: فظاهره أنه لم يحك بناء وهي من أفعل.
وقال ابن خروف: رأيت في النسخ المشرقية أنّه يبنى من فَعَلَ وفَعُلَ وأفْعَلَ زاد في النسخ الرياحية إلا أنّ بناءه من أفعل قليل.
وقد نص على صحة بناء التعجب من أفعل مبني منهما.
وقول ابن عطية: انظر هل يكون من قَسُط بالضم غير صحيح لأنه لم يحك فيه أحد قسُط.
وقول الزمخشري: إنه يجوز على مذهب سيبويه صحيح على ما قاله ابن خروف، ولا يحتاج إلى جعله على طريق النّسب إلاّ لو لم يثبت فيه الرّباعي.
قوله تعالى: {وأدنى أَلاَّ ترتابوا}.
ابن عرفة: إن أريد بالرّيبة مطلق الاحتمال فيكون فيه منح الشّهادة بالمفهوم لأنه ظنّي فلا ينتفي فيه الاحتمال.
وقد قدمنا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يشهد بها على القطع.
الثاني: أنّه لا يشهد.
الثالث: أنّه يشهد بها بالفهم على نحو ما تحملها.
قال ابن عرفة: وإن أريد بالريبة الشك فلا يكون فيه دليل على ما قلنا.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً}.
قال ابن عرفة: إن أراد بالأول الدّين وبهذا الحاضر فيكون حينئذ استثناء منقطعا وإن أراد بالأول مطلق المعاملة فهو متصل.
فإن قلت: هل في الآية دليل لمن يقول: إنّ الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كالاستدلال بقول الله تعالى: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} وإلا لما كان له فائدة.
فالجواب أنّ الأول تناول الكتب والإشهاد، فلو لم تذكر هذه الزيادة لأدّى إلى إهمال الإشهاد والكتب.
فأفادت هذه الزيادة رفع الجناح عن الكتب في الحاضر وبقاء الأمر في الإشهاد فيها من غير كتب.
أبو حيان: وقيل الاستثناء متصل راجع لقوله: {وَلا تَسْئَمُوا}.
وقَدّر أبو البقاء معنى الاتصال في الاستثناء لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة، واستثنى منه التجارة الحاضرة.
والتقدير: إلاّ في حال الحضور للتجارة.
قال الصفاقسي: وفي هذا التقدير نظر. انتهى.
قوله تعالى: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
هذه تضمنت الإشهاد من غير كتب فلا تناقض في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} لأن تلك إنّما اقتضت رفع الجناح عن عدم الكتب وبقي الإشهاد مطلوبا.
قوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.
يحتمل أن يكون أصله يضارِرُ مبينا للفاعل أو يضارَرُ مبينا للمفعول.
قال ابن عرفة: ويصح حمله على الأمرين معا على القول بجواز تعميم اللفظ المشترك في مفهوميه معا، كما قالوا في الجور والقرء ونحوه.
قيل لابن عرفة: هذان لفظان وذلك إنما هو في اللّفظ الواحد كذا قال الفخر؟
فقال ابن عرفة: قد قال سيبويه في المشترك إنهما لفظان دالاّن على معنيين.
ذكره في باب المستقيم والإحالة في وجدت.
وقال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الثالث في قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} إنّه يحتمل أن يكون مضافا للفاعل والمفعول معا، ثم رده بأنه إذا عمّمنا في الأمرين يلزم أن يكون مرفوعا ومنصوبا في حالة واحدة وذلك جمع بين النقيضين.
فإن قلت: لم عبر في {شهيد} بلفظ المبالغة دون {كاتب}.
قلت: إنّ ذلك فيمن برّز وبلغ إلى درجة العدالة.
واختلف الناس في جواز أخذ الأجرة على الشهادة والمعروف المنع.
وبعضهم أجازها إذا كان منقطعا عن أسبابه إليها.
وقيل: إن كان له من المعرفة ما يفتقر بها إليه في النظر في الوثيقة ليصححها فقها وكتابة باعتبار سلامتها من اللّحن المخل فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
وقال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح في علوم الحديث ما نصه: من أخذ على التحديث أجرا فقال إسحاق بن ابراهيم وأحمد ابن حنبل وأبو حاتم الرازي في ذلك مانع من قبول روايته فلا يؤخذ منه.
وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبدالعزيز المكي وآخرون فأجازوا أخذ العوض عن التحديث وشبهوها بأخذ الأجرة على إقرائهم القرآن على أنّ في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظّن السّوء بفاعله إلاّ أنْ يقترن ذلك بما ينفيه كما كان أبو الحسن السّعودي وأفتى به الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنّ أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله. انتهى.
ذكره في النوع الثالث والعشرين في إكمال عياض في كتاب الطب في أحاديث الرقى.
أجاز الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو ثور وأبو إسحاق أخذ الأجرة على الرّقية والطب وعلى تعليم القرآن.
ومنع الإمام أبو حنيفة وأصحابه الأجرة على تعليم القرآن وأجازوا الأجرة على الرقية.
قال ابن عرفة: فحاصله أنه إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه وكان فقيرا محتاجا لما يتعيش به ولم يكن عنده من المال ما يستغني به عن طلب المعاش فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
وحكى أبو العباس أحمد بن حلولو عن والده أنّ القاضي أبا محمد عبد الله اللّخمي بعث له صهره سيدى أَبَو علي بن قداح بزير لبن فشربه ثم سمع أنه من عند شاهد يأخّذ الأجرة على الشهادة، فتقيأه، ثم لما صار هو شاهدا كان يأخذ في الشهادة قدر الدينار كل يوم، وما ذلك إلا لأنّه كان يأخذ ذلك من وجهه، والشاهد الأول لم يكن يأخذ ذلك من وجهه.
قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}.
الفسق في اللّغة مطلق الخروج عن الحدّ وفي الشّرع هو تعدّي الحدود الشرعية.
قوله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله}.
قال ابن عرفة: هذا دليل على ثبوت اشتراط العلم في الكاتب والشاهد.
قوله تعالى: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
اختلفوا في لفظ شيء هل يصدق على المعدوم أو لا؟
وقال الشيخ القرافي في تأليفه على الأربعين لابن الخطيب: إن ذلك الخلاف إنما هو في كونه محكوما به لا في كونه متعلق الحكم كقولك: المعدوم شيء.
وأما مثل {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو متعلق الحكم.
قال ابن عرفة: إنما الخلاف مطلقا، وما ذكروا هذا إلا في اسم الفاعل المشتق وأما في هذا فقد ذكره الآمدي في أبكار الأفكار مطلقا.
ابن عرفة: والآية حجة بأنّ المعدوم ليس بشيء وهو مذهب أهل السنة. اهـ.